فصل: الخبر عن مهلك السلطان أبي سعيد عفا الله عنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الخبر عن انتقاض العزفي بسبتة ومنازلته ثم مصيرها إلي طاعة السلطان

بعد مهلكه كان بنو العزفي لما تغلب عليهم الرئيس أبو سعيد ونقلهم إلى غرناطة سنة خمس واستقروا بها في إيالة المخلوع ثالث ملوك بني الأحمر حتى إذا استولى السلطان أبو الربيع على سبتة سنة تسع آذنوا في الإجازة إلى المغرب وأجازوا إلى فاس واستقروا بها‏.‏وكان يحيى وعبد الرحمن ابنا أبي طالب من سرواتهم وكبارهم وكانوا يغشون مجالس أهل العلم بما كانوا عليه من انتحال الطب‏.‏وكان السلطان أبو سعيد أيام أمارة بني أبيه يجالس بالمسجد الجامع للقرويين شيخ الفتيا أبا الحسن الصغير‏.‏وكان يحيى بن أبي طالب يلازمه فاتصل به وصارت له وسيلة يحسبها عنده‏.‏فلما ولي الأمر واستقل به رعى لهم زمام صحابتهم ووفى لهم مقاصدهم‏.‏وعقد ليحيى على سبتة ورجعهم إلى مقر أمارتهم منها ومحل رياستهم فارتحلوا إليها سنة عشر وأقاموا دعوة السلطان أبي سعيد والتزموا طاعته‏.‏ثم تغلب الأمير أبو علي على أمر أبيه واستبد عليه فعقد على سبتة لأبي زكرياء حبون بن أبي العلاء القرشي وعزل يحيى بن أبي طالب عنها‏.‏واستقدمه إلى فاس فقدمها هو وأبوه أبو طالب وعمه أبو حاتم واستقروا في جملة السلطان‏.‏وهلك أبو طالب‏.‏بفاس خلال ذلك حتى إذا كان من خروج الأمير أبي علي على أبيه ما قدمناه لحق يحيى بن أبي طالب وأخوه بالسلطان نازعين من جملة الأمير أبي علي‏.‏فلما احتل بالبلد الجديد ونازله السلطان بها فحينئذ عقد السلطان ليحيى بن أبي طالب على سبتة وبعثه إليها ليقيم دعوته بتلك الجهات‏.‏وتمسك بابنه محمد رهناً على طاعته فاستقل بأمارتها وأقام طاعة السلطان ودعوته بها‏.‏وأخذ بيعته على الناس واتصل ذلك سنين‏.‏وهلك عمه أبو حاتم هنالك بعد مرجعه معه من المغرب‏.‏ولسنة ست عشرة انتقض على السلطان ونبذ طاعة الأمر ورجع إلى حال سلفه عن أمر الشورى في البلد‏.‏واستقدم من الأندلس عبد الحق بن عثمان فقدم إليه وعقد له على الحرب ليفرق به الكلمة ويوهن ببأسه عزائم السلطان في مطالبته‏.‏وجهز السلطان إليه العساكر من بني مرين وعقد على حربه للوزير إبراهيم بن عيسى فزحف إليه وحاصره‏.‏وتعلل عليهم بطلب ابنه فبعث به السلطان إلى وزيره إبراهيم ليعطي الطاعة فتسلمه وجاءه الخبر من عيون كانت بالعسكر أن ابنه كان في فسطاط الوزير بساحة البحر بحيث يتأتى الفرصة في أخذه فبيت المعسكر وهجم عبد الحق بن عثمان بحشمه وذويه على فسطاط الوزيرة فاحتمله إلى أبيه‏.‏وركبت العساكر للهيعة فلم يقفوا على خبر حتى تفقد الوزير ابن العزفي‏.‏واتهموا قائدهم إبراهيم بن عيسى الوزير بممالأة العدو على ذلك فاجتمعت مشيختهم وتقبضوا عليه وحملوه إلى السلطان ابتلاء للطاعة واستنصاراً في نصح السلطان فشكر لهم وأطلق وزيره لابتلاء نصيحته‏.‏ ورغب يحيى بن العزفي بعدها في رضى السلطان وولايته‏.‏ونهض السلطان سنة تسع عشرة إلى طنجة لاختبار طاعته فعقد له على سبتة واشترط هو على نفسه الوفاء بجباية السلطان وأسنى هديته في كل سنة‏.‏ واستمرت الحال على ذلك إلى أن هلك يحيى العزفي سنة عشرين‏.‏وقام بالأمر ابنه محمد إلى نظر ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم شيخ قرابتهم‏.‏وكان قائد الأساطيل بسبتة ولي النظر فيها بعد أن نزع القائد يحيى الزنداحي إلى الأندلس واختلف الغوغاء بسبتة وانتهز السلطان الفرصة فأجمع على النهوض إليها سنة ثمان وعشرين وبادروا بإيتاء طاعتهم‏.‏وعجز محمد بن يحيى عن المناهضة وظنها محمد بن علي من نفسه فتعرض للأمر في أوغاد من اللفيف اجتمعوا إليه‏.‏ودافعهم الملأ عن ذلك وحملوهم على الطاعة واقتادوا بني العزفي إلى السلطان فانقادوا‏.‏واحتل السلطان بقصبة سبتة وثقف جهاتها ورم منثلمها وأصلح خللها‏.‏واستعمل كبار رجالاته وخواص مجلسه في أعمالها فعقد لحاجبه عامر بن فتح الله السدراتي على حاميتها‏.‏ وعقد لأبي القاسم بن أبي مدين على جبايتها والنظر في مبانيها وإخراج الأموال للنفقات فيها‏.‏وأسنى جوائز الملأ من مشيختها ووفر إقطاعاتهم وجراياتهم‏.‏وأوعز ببناء البلد المسمى أفراك أعلى سبتة فشروعوا في بنائها سنة تسع وعشرين وانكفأ راجعاً إلى حضرته‏.‏

  الخبر عن استقدام عبد المهيمن للكتابة والعلامة

كان بنو عبد المهيمن من بيوتات سبتة ونسبهم في حضرموت‏.‏ وكانوا أهل تجلة ووقار منتحلين للعلم‏.‏ وكان أبوه محمد قاضياً بسبتة أيام أبي طالب وأبي حاتم وكان له معهم صهر‏.‏ونشأ ابنه عبد المهيمن هذا في حجر الطب والجلالة وقرأ صنعة العربية على الأستاذ الغافقي وحذق فيها‏.‏ولما نزلت بهم نكبة الرئيس أبي سعيد سنة خمس واحتملوا إلى غرناطة احتمل فيهم القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه‏.‏وقرأ عبد المهيمن بغرناطة على مشيختها وازداد علماً وبصراً باللسان والحديث‏.‏واستكتب بدار السلالان محمد المخلوع واختص بوزيره المتغلب على دولته محمد بن عبد الحكم الرندي فيمن اختص به من رؤسائهم بني العزفي ثم رجع بعد نكبة ابن الحكم إلى سبتة وكتب عن قائدها يحيى بن مسلمة مدة‏.‏ولما استخلص بنو مرين سبتة سنة تسع اقتصر عن الكتابة وأقام متقبلاً مذاهب سلفه في انتحال العلم ولزوم المروءة‏.‏ولما استولى السلطان أبو سعيد على المغرب واستقل بولاية العهد والتغلب على الأمر ابنه أبو علي وكان محباً للعلم مولعاً بأهله منتحلاً لفنونه‏.‏وكانت دولته خلواً من صناعة الترسيل منذ عهد الموحدين للبداوة الموجدة في دولتهم‏.‏وحصل للأمير أبي علي بعض البصر بالبلاغة واللسان تفطن به لشأن ذلك وخلو دولتهم من الكتاب المرسمين وأنهم إنما يحكمون الخط الذي حذقوا فيه‏.‏ورأى فيه الأصابع تشير إلى عبد المهيمن في رياسة تلك الصنائع فولع به‏.‏وكان كثير الوفادة مع أهل بلده أوقات وفادتهم فيختصه الأمير أبو علي بمزيد من بره وكرامته ويرفع مجلسه ويخطبه للكتابة وهو يمتنع عليه‏.‏حتى إذا مضى عزيمته في ذلك أوعز إلى عامله بسبتة سنة اثنتي عشرة أن يشخصه إلى بابه فقلده كتابته وعلامته‏.‏حتى إذا خرج أبو علي على أبيه تحيز عبد المهيمن إلى الأمير أبي الحسن فلما صولح أبو علي على النزول عن البلد الجديد وكتب شروطه على السلطان كان من جملتها كون عبد المهيمن معه وأمضى السلطان له ذلك‏.‏وأنف الأمير أبو الحسن منها فأقسم ليقتلنه إن عمل بذلك فرفع عبد المهيمن أمره إلى السلطان ولاذ به وألقى نفسه بين يديه فرق لشكواه وأمره باعتزالهما معاً والرجوع إلى خدمته‏.‏وأنزله بمعسكره وقام على ذلك‏.‏واختصه منديل الكناني كبير الدولة وزعيم لخاصة وأنكحه ابنته‏.‏ولما نكب منديل الكناني جعل السلطان علامته لأبي القاسم بن أبي مدين وكان غفلاً خلواً من الأدوات فكان يرجع إلى عبد المهيمن في قراءة الكتب وإصلاحها وإنشائها حتى عرف السلطان له ذلك فاقتصر عليه وجعل وضع العلامة إليه سنة ثمان عشرة فاضطلع بها‏.‏ورسخت قدمه في مجلس السلطان وارتفع صيته‏.‏واستمر على ذلك أيام السلطان وابنه أبي الحسن من بعده إلى أن هلك بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين‏.‏ والله خير الوارثين‏.‏

  الخبر عن صريخ أهل الأندلس بالسلطان ومهلك بطرة على غرناطة

كان الطاغية شانجة بن أدفونش قد تكالب على أهل الأندلس من بعد أبيه هراندة الهالك سنة اثنتين وثمانين‏.‏ ومنذ غلب على طريف وشغل السلطان يوسف بن يعقوب بعدوه بني يغمراسن ثم تشاغل حفدته من بعده بأمرهم وتقاصرت مددهم وهلك شانجة سنة ثلاث وتسعين وولي ابنه هراندة ونازل الجزيرة الخضراء فرضة الجهاد لبني مرين حولاً كاملاً‏.‏ونازلت أساطيله جبل الفتح واشتد الحصار على المسلمين‏.‏وراسل هراندة بن أدفونش صاحب برشلونة أن يشغل أهل الأندلس من ورائهم ويأخذ بحجزتهم فنازل المرية وحاصرها الحصار المشهور سنة تسع ونصب عليها الالات‏.‏وكان منها برج العود المشهور طال الأسوار بمقدار ثلاث قامات وتحيل المسلمون في إحراقه فأحرق‏.‏ وحفر العدو تحت الأرض مسرباً عريض المسافة مقدار ما يسير فيه عشرون راكباً‏.‏وتفطن لهم المسلمون وحفروا قبالتهم مثاله إلى أن نفذ بعضهم لبعض واقتتلوا تحت الأرض‏.‏وعقد ابن الأحمر لعثمان بن أبي العلاء زعيم الأعياص على عسكر بعثه مدداً لأهل المرية فلقيه جمع من النصارى كان الطاغية بعثهم لحصار مرشانة فهزمهم عثمان واستلحمهم‏.‏ونزل قريباً من معسكر الطاغية وألح بمغاداتهم ومراوحتهم إلى أن رغبوا إليه في السلم وأفرج عن البلد‏.‏وتغلب الطاغية خلال ذلك على جبل الفتح وأقامت عساكره على شمانة واصطبونة‏.‏وزحف العباس بن رحو بن عبد الله وعثمان بن أبي العلاء في العساكر لإغاثة البلدين فأوقع عثمان بمعسكر اصطبونة وقتل قائدهم ألفنس بترس في نحو ثلاثة آلاف فارس واستلحموا‏.‏ثم زحف عثمان إلى إعانة العباس وكان دخل عوجين فحاصرته جموع النصرانية به فانفضوا لخبر زحفه‏.‏وبلغ الخبرإلى الطاغية بمكانه من ظاهر الجزيرة بفتك عثمان في قومه فسرح جموع النصرانية إليه ولقيهم عثمان فأوقع بهم وقتل زعماءهم‏.‏ وارتحل الطاغية يريد لقاءهم فخالفه أهل البلد إلى معسكره وانتهبوا مخلفاته وفساطيطه‏.‏واتيحت للمسلمين عليهم الكرة وإمتلأت الأيدي من غنائمهم وأسراهم‏.‏ثم هلك الطاغية إثر هذه الهزيمة سنة اثنتي عشرة وهو هراندة بن شانجة وولي من بعده ابنه الهنشة طفلاً صغيراً جعلوه إلى نظر عمه دون بطرة بن شانجة وزعيم النصرانية جوان فكفلاه‏.‏واستقام أمرهم على ذلك‏.‏وشغل السلطان أبو سعيد ملك المغرب بشأن ابنه وخروجه فاهتبل النصرانية الغرة في الأندلس وزحفوا إلى غرناطة سنة ثمان عشرة وأناخوا عليها بمعسكرهم وأممهم‏.‏وبعث أهل الأندلس صريخهم إلى السلطان واعتذر لهم بمكان أبي العلاء من دولتهم ومحله من رياستهم وأنه مرشح للأمر في قومه بني مرين يخشى معه من تفريق الكلمة‏.‏وشرط عليهم أن يدفعوه إليه برمته حتى يتم أمر الجهاد ويعيده إليهم حوطة على المسلمين‏.‏ولم يمكنهم ذلك لمكان عثمان بن أبي العلاء بصرامته وعصابته من قومه فأخفق سعيهم واستلحموا‏.‏وأحاطت أمم النصرانية بغرناطة وطمعوا في التهامها‏.‏ثم إن الله نفس مخنقهم ودافع بيد قدرته عنهم وكيف لعثمان بن أبي العلاء وعصبته واقعة فيهم كانت من أغرب الوقائع‏.‏ صمدوا إلى موقف الطاغية بجملتهم وكانوا زهاء مايتين أو أكثر‏.‏ وصابروهم حتى خالطوهم في مراكزهم فصرعوا بطرة وجوان وولوهم الأدبار‏.‏ واعترضتهم من ورائهم مسارب الماء للشرب من شنيل فتطارحوا فيها‏.‏ وهلك كثيرهم واكتسحت أموالهم وأعز الله دينه وأهلك عدوه‏.‏ ونصب رأس بطرة بسور البلد عبرة لمن يتذكر‏.‏ وهو باق هنالك لهذا العهد‏.‏

  الخبر عن صهر الموحدين والحركة إلى تلمسان على أثره

وما تخلل ذلك من الأحداث ولما انفرج الحصار عن ولد عثمان بن يغمراسن ملوك بني عبد الواد سنة ست وتجافى أبو ثابت عن بلادهم ونزل لهم عما ملكه بنو مرين منها بسيوفهم‏.‏واستقل أبو حمو بملك بني عبد الواد على رأس الدول منها صرف نظره واهتمامه إلى بلاد الشرق فتغلب على بلاد مغراوة ثم على بني توجين‏.‏ ومحا أثر سلطانهم‏.‏ ولحق أعياصهم من ولد عبد القوي بن عطية وولد منديل بن عبد الرحمن بالموحدين آل أبي حفص مع من تبعهم من رؤوس قبائلهم وصاروا في جملة عساكرهم‏.‏واستلحق مولانا السلطان أبو يحيى وحاحبه يعقوب بن غمر منهم جنداً كثيفاً أثبتهم في الديوان وغالب بهم الخوارج والمنازعين للدولة‏.‏ ثم زحف أبو حمو إلى الجزائر وغلب ابن علان عليها ونقله إلى تلمسان ووفى له‏.‏ وفر بنو منصور أمراء مليكش أهل بسيط متيجة من صنهاجة فلحقوا بالموحدين واصطنعوهم‏.‏ وتملك قاصية المغرب الأوسط وتاخم عمل الموحدين بعمله‏.‏ثم تغلب على تدلس سنة اثنتي عشرة وتجنى على مولانا السلطان أبي يحيى بما وقع بينهم من المراسلة أيام انتزاء ابن خلوف ببجاية كما ذكرناه في أخباره يحث عزائمه لمنازلتها‏.‏وطلب بلاد الموحدين وأوطأ عساكره أرضهم ونازل أمصارهم بجاية وقسنطينة‏.‏واختص بجاية بشوكته من ذلك‏.‏وجهز العساكر مع مسعود إبن عمه أبي عامر إبراهيم لمضايقتها‏.‏ وكان خلال ذلك ما قدمناه من خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن عليه وقيام بني توجين بأمره واقتطاع جبل وانشريش من عمالة ملكه‏.‏ واستمرت الحال على ذلك حتى هلك السلطان أبو حمو سنة ثمان عشرة‏.‏ وقام بأمرهم أبو تاشفين عبد الرحمن فصنع له في ابن عمه محمد بن يوسف‏.‏ ونهض إليه بعساكر بني عبد الواد حتى نازله بمعتصمه من جبل وانشريش‏.‏وداخله عمر بن عثمان كبير بني تيغرين في المكربة فتقبض عليه وقتله سنة تسع عشرة‏.‏وارتحل إلى بجاية حتى احتل بساحتها‏.‏ وأمتنع عليه الحاجب ابن غمر فأقام يوماً أو بعضه‏.‏ثم انكفأ راجعاً إلى تلمسان ورفد البعوث إلى أوطان بجاية وابتنى الحصون لتجمر الكتائب فابتنى بوادي بجاية من أعلاه حصن بكر ثم حصن تيمزيزدكت يليه‏.‏ثم اختط بنيكلات على مرحلة منها بلداً سماه تيمزيزدكت على اسم المعقل الذي كان لأوليهم بالجبل قبالة وجدة‏.‏ وامتنع يغمراسن به على السعيد كما قدمناه فاختط بلد تيكلات هذه وشحنها بالأقوات والعساكر وصيرها ثغراً لملكه وأنزل بها جنده‏.‏ وعقد عليها لموسى بن علي العزفي كبير دولته ودولة ابنه‏.‏ واستحثه أمراء الكعوب من بني سليم لملك إفريقية حين مغاضبتهم لمولانا السلطان أبي يحيى فأغرس معهم جيوش زناتة وعقد على تونس للأعياص من آل أبي حفص الأمير أبي عبد الله محمد بن أبي يحيى اللحياني وأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن عمران وأبي إسحاق بن أبي يحيى الشهيد مرة بعد أخرى كما ذكرناه في أخبارهم جميعاً‏.‏وكانت حروبهم سجالاً إلى أن كان بين جيوش زتاتة الموحدين الزحف المشهور بالرياش من نواحي مرماجنة سنة تسع وعشرين زحفت فيه إلى السلطان أبي يحيى عساكر زناتة مع حمزة بن عمر أمير بني كعب ومن إليه من البدو وعليهم يحيى بن موسى من صنائع دولة آل يغمراسن‏.‏وقد نصبوا للملك محمد بن أبي عمران بن أبي حفص ومعهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني عبد الحق في بنيه وذويه‏.‏ وكان نزع إليهم من عند الموحدين كما ذكرناه فاختل مصاف مولانا السلطان أبي يحيى وانهزم واستولوا على فساطيطه بما فيها من الذخيرة والحرم وانتهبوا معسكره‏.‏وتقبضوا على ولديه الموليين أحمد وعمر وأشخصوهما إلى تلمسان‏.‏ واصيب السلطان في بدنه بجراحات أوهنته وخلص إلى بونة ناجيا برمقه‏.‏ وركب السفين منها إلى بجاية فأقام بها يدامل جراحه‏.‏ واستولت زناتة على تونس‏.‏ودخلها محمد بن أبي عمران سموه باسم السلطان ومقادته في يد يحيى بن موسى أمير زناتة‏.‏واعتزم مولانا السلطان أبو يحيى على الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد بنفسه صريخاً على آل يغمراسن‏.‏ وأشار حاجبه محمد بن سيد الناس بإنفاذ ابنه الأمير أبي زكرياء صاحب الثغر استنكافاً له عن مثلها فتقبل إشارته وأركب ابنه البحر لذلك‏.‏وبعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحدين نافضاً أمامه طرق المقاصد والمجاورات ونزلوا بغساسة من سواحل المغرب‏.‏ وقدموا على السلطان أبي سعيد بحضرته وأبلغوه صريخ مولانا السلطان أبي يحيى فاهتز لذلك هو وابنه الأمير أبو الحسن وقال للأمير في ذلك المحفل يا بني‏!‏ لقد أكبر قومنا قصدك وموصلك ووالله لأبذلن في مظاهرتكم مالي وقومي ونفسي ولأسيرن بعساكري إلى تلمسان فأنزلها مع أبيك فانصرفوا إلى منازلهم مسرورين‏.‏ وكان فيما شرطه عليهم السلطان أبو سعيد مسير مولانا السلطان أبي يحيى بعسكره إلى منازلة تلمسان معه فقبلوا‏.‏ ونهض السلطان أبو سعيد إلى تلمسان سنة ثلاثين‏.‏ ولما انتهى إلى وادي ملوية وعسكر بصبرة جاءهم

  الخبر اليقين باستيلاء السلطان أبي يحيى على حضرة تونس وإجهاضه زناتة

وسلطانهم عنها‏.‏ واستدعى مولانا السلطان الأمير أبا زكرياء يحيى ابنه ووزيره أبا محمد عبد الله بن تافراكين وأمرهم بالانصراف إلى صاحبهم وأسنى جوائزهم وحباءهم وركبوا أساطيلهم عن غساسة‏.‏وأرسل معهم للخطبة والصهر إبراهيم بن أبي حاتم العزفي والقاضي بحضرته أبا عبد الله بن عبد الرزاق وانكفأ على عقبه راجعاً إلى حضرته‏.‏ولما انعقد الصهر بين الأمير أبي الحسن والسلطان أبي يحيى في ابنته شقيقة الأمير يحيى زفها إليهم في أساطيله مع مشيخة من الموحدين كبيرهم أبو القاسم بن عتو ووصلوا بها إلى مرسى غساسة سنة إحدى وثلاثين بين يدي مهلك السلطان أبي سعيد فقاموا بها على إقدام البر والتكرمة‏.‏وبعثوا الظهر إلى غساسة لركوبها وحمل أثقالها وصيغت حكمات الذهب والفضة وقدت ولايا الحرير المغشاة بالذهب واحتفل لوفادها وأعراسها غاية الاحتفال بما لم يسمع مثله في دولتهم‏.‏وتولت قهارمة الدار من عجز من النساء ما يتولاه مثلهم من ذلك الصنيع وتحدث الناس به‏.‏وهلك السلطان أبو سعيد بين يدي موصلها‏.‏ والبقاء لله وحده‏.‏ولاية ابنه السلطان أبي الحسن

  الخبر عن مهلك السلطان أبي سعيد عفا الله عنه

وولاية ابنه السلطان أبي الحسن وما تخلل ذلك من الأحداث وكان السلطان لما بلغه وصول العروس بنت مولانا السلطان أبي يحيى سنة إحدى وثلاثين واهتزت الدولة لقدومها عليهم تعظيماً لحق أبيها وقومها واحتفاء بها ارتحل السلطان أبو سعيد إلى تازى ليشارف أحوالها بنفسه استبلاغاً في تكريمها وسروراً بعروس ابنه‏.‏واعتل هنالك ومرض حتى أشفى على الهلاك وارتحل به ولي العهد الأمير أبو الحسن إلى الحضرة وحمله في فراشه على أكتاف الحاشية والخول حتى نزل بسبو ثم أدخله كذلك ليلا إلى داره‏.‏وأدركته المنية في طريقه فقضى رحمة الله عليه فوضوه بمكانه من البيت واستدعى الصالحين لمواراته فووري لشهر ذي الحجة من سنة إحدى وثلاثين‏.‏ والبقاء لله وحده وكل شيء هالك إلا وجهه‏.‏ولما هلك السلطان أبو سعيد اجتمع الخاصة من المشيخة ورجالات الدولة إلى ولي عهده الأمير أبي الحسن وعقدوا له على أنفسهم وأتوه بيعتهم‏.‏ وأمر بنقل معسكره من سبو وأضرب بالزيتون من ساحة فاس‏.‏ولما ووري السلطان خرج إلى معسكره في التعبية واجتمع إليه الناس على طبقاتهم لأداء البيعة وجلس بفسطاطه‏.‏وتولى أخذ البيعة له يومئذ على الناس المزوار عبو بن قاسم عريف الوزعة والمتصرفين وحاجب الباب القديم الولاية في ذلك بدارهم منذ عهد السلطان يوسف بن يعقوب‏.‏وزفت إليه ليلتئذ عروسه بنت مولانا السلطان أبي يحيى فأعرس بها بمكانه من المعسكر وأجمع أمره على الانتقام لأبيها من عدوه‏.‏وبدأ باستكشاف حال أخيه أبي علي وكان السلطان أبوهما يستوصيه به لما كان له بقلبه من العلاقة‏.‏ وكان ولي العهد هذا يؤثر لرضاه جهده فاعتزم على الحركة إلى سجلماسة لمشارفة أحواله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

  الخبر عن حركة السلطان أبي الحسن إلى سجلمالسة وانكفائه عنها إلى تلمسان

بعد الصلح مع أخيه والاتفاق لما هلك السلطان أبو سعيد وكملت بيعة السلطان أبي الحسن وكان كثيراً ما يستوصيه بأخيه أبي علي لما كان كلفاً به شفيقاً عليه فأراد مشارفة أحواله قبل النهوض إلى تلمسان فارتحل من معسكره بالزيتون قاصداً سجلماسة‏.‏وتلقته في طريقه وفود الأمير أبي علي أخيه مؤدياً حقه موجباً مبرته مهنياً بما أتاه الله من ملك متجافياً عن المنازعة فيه قانعاً من تراث أبيه بما حصل في يده طالباً العقد له بذلك من أخيه‏.‏فأجابه السلطان أبو الحسن إلى ما سأل وعقد له على سجلماسة وما إليها من بلاد القبلة كما كان لعهد أبيهما‏.‏وشهد الملأ من القبيل وسائر زناتة والعرب وانكفأ راجعاً إلى تلمسان بإجابة صريخ الموحدين‏.‏وأغذ السير إليها‏.‏ولما انتهى إلى تلمسان نكث عنها متجاوزا إلى ناحية الشرق لوعد مولانا السلطان أبي يحيى بالنزول معه إلى تلمسان كما كان عليه وفاقهم ومشارطهم مع الأمير أبي زكريا الرسول إليهم فاحتل بتاسالة في شعبان من سنة اثنتين وثلاثين‏.‏وتلوم بها وأوعز إلى أساطيله بمراسي المغرب فأغزاها إلى سواحل تلمسان‏.‏وجهز لمولانا السلطان أبي يحيى مدداً من محس‏!‏ كره أركبهم الأساطيل من سواحل وهران وعقد عليهم لمحمد البطوي من صنائع دولته‏.‏ونزلوا بجاية ووافوا بها مولانا السلطان أبا يحيى فصاروا في جملته‏.‏ونهضوا معه إلى تيكلات ثغر بني عبد الواد المجمرة بها الكتائب لحصار بجاية وبها يومئذ ابن هزرع من قوادهم‏.‏وأجفل من كان بها من العساكر قبل وصوله إليهم فلحقوا بآخر عملهم من المغرب الأوسط‏.‏وأناخ مولانا السلطان أبو يحيى عليها بعساكره من الموحدين والعرب والبربر وسائر الحشود فخربوا عمرانها وانتهبوا ما كان من الأقوات مختزناً بها وكان بحراً لا يدرك ساحله لما كان السلطان أبو حمو من لدن اختطها قد أوعز إلى العمال بسائر البلاد الشرقية منذ عمل البطحاء أن ينقلوا أعشار الحبوب إليها وسائر الأقوات‏.‏ وتقبل ابنه السلطان أبو تاشفين مذهبه في ذلك‏.‏ولم يزل دأبهم إلى حين حلت بها هذه الفاقرة فانتهب الناس من تلك الأقوات ما لا كفاء له‏.‏وأصرعوا مختطها بالأرض فنسفوها نسفاً وذروها قاعاً صفصفاً‏.‏ والسلطان أبو الحسن خلال ذلك متشرف لأحوالهم منتظر قدوم مولانا السلطان أبي يحيى بعساكره عليه لمنازلة تلمسان حتى وافاه الخبر بانتقاض أخيه كما نذكره فانكفأ راجعاً‏.‏ واتصل الخبر بمولانا السلطان أبي يحيى فقفل إلى حضرته‏.‏وحمل البطوي معه وأسنى جائزته وجوائز عسكره فانصرفوا إلى السلطان مرسلهم في سفنهم‏.‏وانقبض عنان السلطان أبي تاشفين عن غزو البلاد الموحدين إلى أن انقرض أمره‏.‏والبقاء لله وحده‏.‏

  الخبر عن انتقاض أبي علي ونهوض السلطان أبي الحسن إليه وظفره به

لما توغل السلطان أبو الحسن في غزاة تلمسان وتجاوزها إلى تاسالة لموعد مولانا السلطان أبي يحيى دس أبو تاشفين إلى الأمير أبي علي في اتصال اليد والاتفاق على السلطان أبي الحسن وأن يأخذ كل واحد منهما بحجزته عن صاحبه متى هم به وانعقد بينهما على ذلك‏.‏وانتقض الأمير أبو علي على أخيه السلطان أبي الحسن ونهض من سجلماسة إلى درعة فقتل بها عامل السلطان واستعمل عليها من ذويه وسرح العسكر إلى بلاد مراكش‏.‏واتصل الخبر بالسلطان وهو بمعسكره بتاسالة فأحفظه شأنه وأجمع على الانتقام منه فانكفأ راجعاً إلى الحضرة‏.‏وأنزل بثغر تاوريرت تخم عمله عسكراً وعقد عليه لابنه تاشفين وجعله إلى نظر وزيره منديل بن حمامة بن تيربيغين وأغذ السير إلى سجلماسة فنزل عليها وأحاطت عساكره بها وأخذ بمخنقها‏.‏وحشد الفعلة والصناع لعمل الآلات لحصارها والبناء بساحتها‏.‏وأقام يغاديها القتال ويراوحها حولاً كريتاً‏.‏ونهض أبو تاشفين في عساكره وقومه إلى ثغر المغرب ليوطئه عساكره ويعيث في نواحيه ويجاذب السلطان عن مكانه من حصاره‏.‏ولما انتهى إلى تاوريرت برز إليه ابن السلطان في وزرائه وعساكره وزحفوا إليه في التعبئة فاحتل مصافه وانهزم ولم يلق أحداً وعاد إلى منحجزه‏.‏وبادر إلى إمداد الأمير أبي علي بعسكره فعقد على حصة من جنوده وبعث بهم إليه فتسربوا إلى البلد زرافات ووحداناً حتى استكملوا عنده‏.‏وطاولهم السلطان الحصار وأنزل بهم أنواع الحرب والنكال حتى تغلب عليهم واقتحم البلد عنوة وتقبض على الأمير أبي علي عند باب قصره‏.‏وسيق إلى السلطان فأمهله واعتقله واستولى على ملكه‏.‏وعقد على سجلماسة واستعمل عليها ورحل منكفياً إلى الحضرة فاحتل بها سنة ثلاث وثلاثين‏.‏واعتقل أخاه في حدى حجر القصر إلى أن قتله لأشهر اعتقاله خنقاً بمحبسه‏.‏وعذر له هذا الفتح بفتح جبل واسترجاعه من يد العدو دمره الله بأيدي عسكره تحت راية ابنه أبي مالك‏.‏كما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  الخبر عن منازلة جبل الفتح واستئثار الأمير أبي مالك والمسلمين به

لما هلك السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي السعيد المتغلب على ملك الأندلس من يد ابن عمه أبي الجيوش قام بالأمر من بعده ابنه محمد طفلاً صغيراً إلى نظر وزيره محمد بن المحروق من بيوت الأندلس وصنائع الدولة واستبد عليه‏.‏فلما شب وناهز وأنف من الاستبداد عليه أغراه المعلوجي من حشمه بالوزير فاغتاله وقتله سنة تسع وعشرين‏.‏ وشمر للاستبداد وشيد أواخي الملك‏.‏وكان الطاغية قد أخذ جبل الفتح سنة تسع وجاورت النصرانية به ثغور الفرضة وصار شجى في صدرها وأهم الملسمين شأنه‏.‏ وشغل عنهم صاحب المغرب بما كان من فتنة ابنه فرجعوا الجزيرة وحصونها إلى ابن الأحمر منذ سنة اثنتي عشرة لأول الماية الثامنة‏.‏واستغلظ الطاغية عليهم بعد ذلك فرجعوا الجزيرة إلى صاحب المغرب سنة تسع وعشرين‏.‏وولى عليها السلطان أبو سعيد من أهل دولته سلطان بن مهلهل من عرب الخلط وأخواله‏.‏وأسف الطاغية إلى حصونها عند مهلك السلطان أبي سعيد فملك أكثرها ومنع البحر من الإجازة‏.‏ وقارن ذلك استبداد صاحب الأندلس وقتله لوزيره المحروق‏.‏وأهمه شأن الطاغية فبادر إلى إجازة البحر‏.‏ ووفد على السلطان أبي الحسن بدار ملكه بفاس سنة اثنتين وثلاثين فأكبر موصله وأركب الناس للقائه وأنزله بروض المصارة لصق داره واستبلغ في تكريمه‏.‏وفاوضه ابن الأحمر في شأن المسلمين وراء البحر وما أهمهم من عدوهم وشكا إليه حال الجبل واعتراضه شجى في صدر الثغور فأشكاه السلطان‏.‏وعامل الله في أسباب الجهاد وكان مشغوفاً به متقبلاً مذهب جده يعقوب فيه‏.‏وعقد لابنه الأمير أبي مالك على خمسة آلاف من بني مرين وأنفذه مع السلطان محمد بن إسماعيل لمنازلة الجبل فاحتل بالجزيرة وتتابع إليه الأسطول بالمدد‏.‏وأرسل ابن الأحمر حاشرين في الأندلس فتسايلوا إليه وأضربوا معسكرهم جميعاً بساحة الجبل‏.‏ وأبلوا في حربه ومنازلته البلاء الحسن إلى أن تغلبوا عليه سنة ثلاث وثلاثين واقتحمه المسلمون عنوة‏.‏ونقلهم الله من كان به من النصرانية بما معهم ووفاه الطاغية بأمم الكفر لثالثة فتحه وقد شحنه المسلمون بالأقوات نقلوها من الجزيرة على خيولهم‏.‏وباشر نقلها الأمير أبو مالك وابن الأحمر فنقلها الناس عامة‏.‏وتحيز الأمير أبو مالك إلى الجزيرة وترك بالجبل يحيى بن طلحة بن محلى من وزراء أبيه‏.‏ووصل الطاغية بعد ثلاث فأناخ عليه‏.‏ وبرز أبو مالك بعساكره فنزل قبالته‏.‏ وبعث إلى الأمير أبي عبد الله صاحب الأندلس فوصل بحشد المسلمين بعد أن دوخ أرض النصرانية‏.‏وخرج فنزل بإزاء عسكر الطاغية وتحصن العدو في محلتهم‏.‏وأقاموا كذلك عادية لقرب العهد بارتجاعه وخفة ما به من الحامية والسلاح فبادر السلطان ابن الأحمر إلى لقاء الطاغية‏.‏وسبق الناس إلى فسطاطه عجلا بائعاً نفسه من الله في رضى المسلمين وسد فرجتهم فتلقاه الطاغية راجلاً حاسراً إعظاماً لموصله‏.‏وأجابه إلى ما سأل من الإفراج عن هذا المعقل وأتحفه بذخائر مما لديه وارتحل لفوره‏.‏وأخذ الأمير أبو مالك في تثقيف أطراف الثغر وسد فروجه وإنزال الحامية به ونقل الأقوات إليه‏.‏وكان فتحاً طوى دولة السلطان أبي الحسن قلادة الفخر آخر الأيام‏.‏ثم رجع بعدها إلى شأنه من منازلة تلمسان وحصاره كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏